“يا ترى عزاء من هذا؟!”

تفكرت في داخلي و أنا أمر أمام تيازير عزاء قد نصبت وسجادات حمراء قد فرشت وكأنها سجادة في إحدى حفلات توزيع الجوائز على المشاهير. وفي الليلة ذاتها جائني إتصال من صديق لي في وقت متأخر غير معتاد، ليبلغني بوفاة زميلة لنا، وليصف لي مكان العزاء فيكون نفس المكان الذي مررت به آنفاً.

جهزت نفسي في الليلة التالية لأداء مراسم العزاء على الفقيدة، لأواسيهم بقدر المستطاع بكلمات لا تسمن ولا تغني من جوع، فأمامهم الكثير من الذكريات والمواقف التي خلدتها الذاكرة في عقولهم عليهم أن يتحرروا منها حتى يهدأ ألم الفقد ولو بقدر قليل.

ولعدة أيام متتالية، تهاوت علي أخبار الوفاة، فتارة والدة صديقي التي عانت قبل أن يتغمدها الرحمن بلطفه ورحمته، وتارة زميلتنا الطموحة التي طارت من جدة إلى الرياض لإستقبال وظيفتها الجديدة لتفاجأ أن الموت كان ينتظرها قبل العمل، وتارة أخرى شاب عشريني حالم عضو في فرقة إبداعية يلقى حتفه إثر حادث مريع. تسائلت حينها عن عدد من يتوفاههم الله في اليوم والليلة، ووصلت إلى أن الموت لا يتوقف أبداً! فهو مستمر لا يفتئ يقطف ثمرة عمر من يستهدف دون كلل أو ملل، غير آبه لا بسنه ولا بصحته أو عضلاته المفتولة ولا حتى بشيبته اللامعه، فمقياسه مختلف تماماً عما نعتقد. هو موجود دوماً معنا، مترقب لنا في مكان وزمان و “بسيناريو محبوك” لا يعلمه إلا العليم سبحانه، لكن الدنيا تنسينا وجوده بمشاغلها، ولم أعد متأكداً إن كان ذلك النسيان نعمة أو نقمة.

1

“قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون” – الجمعة (8)

الموت الذي نهرب منه ” كحمر مستنفرة، فرت من قسورة”، ونخافه دون أن نعلم سبب ذلك الخوف، هو هاجس يزور البعض بإستمرار ليؤرق منامهم، وآخرون لا يأبهون به بتاتاً لإنشغالهم بالدنيا وأحوالها. أما البعض الآخر فتراهم متأهبين ينتظرونه في كل لحظة، كمن يترقب ضيفاً قد يأتي “على غفلة” ليطرق الباب وكأن لسان حاله يقول “يا بخت من زار وخفف”، ليرحل ومعه الأمانة التي جاء من أجلها دون أن يبيت أو حتى يأكل عند مضيفه.

قضيت تلك الليلة، وصباح اليوم التالي أتفكر في سبب خوفنا من الموت، أيكمن بسبب يا ترى في البرمجة التي حشيت بها أذهاننا عن السكرات والعقاب والعذاب والمعاناة التي تسبقه؟ أم أنه بسبب الصور التي يبثها لنا الإعلام عن ذلك الشبح الذي يرتدي رداءً أسود تشع من ظلمته عينين لامعتين تبث الشرر، يكشر عن أنيابه وهو يحمل فأسه المدبب الذي يحصد به أرواح من يلقى في طريقه؟ أم أنه….

“واو يا بابا شوف هذي الخيمة الجميلة، شكلهم مسووين حفلة حلوووووووة!” إخترقت عبارة إبنتي صبا حاجز الصمت أثناء مرورنا ببيت العزاء، لتقطع حواري مع نفسي وتصدمني برؤية جديدة عن الموت!

أهو فعلاً حفلة وداع؟!

هل ترانا أسأنا الظن بالموت؟

هل خوفنا منه سببه ما جبلنا عليه من خوف من المجهول؟

أيقنت بعدها أن الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، لم يقصد أن يكدر علينا عيشنا أو أن ينكد علينا يومنا حين قال: “أكثروا من ذكر هادم اللذات” حاشاه!

الإكثار من ذكر الموت يخرجنا من غرقنا في لذات الدنيا وسعادتها، ليعيدنا لعيش اللحظة “هنا والآن” بكل فيها من نعم وبركة، فننتقل بذلك إلى مرحلة أعلى: بهجة روحية، نقدر فيها كل ما حولنا من نعم الله وأفضاله، ونترقب لقائه، تاركين التعلق بالمستقبل والخوف منه، والتشبث بالماضي والحزن عليه، مقررين بذلك بدء حياة جديدة بكل ما تحويه الكلمة من معنى.

يقول مولانا جلال الدين الرومي: “مت قبل أن تموت”، كم نحن بحاجة إلى أن نعي تلك العبارة! فبعد قرارنا الواعي بقتل الماضي والمستقبل في حياتنا، يحين موعد ولادتنا من جديد لنحتضن اللحظة بكل تفاصيلها. حينها فقط، يكون الموت حفلة وداع جميلة، يجتمع فيها الأقارب والأحباب والأصحاب، ليدعوا لنا و يودعونا وداعاً مؤقتاً، حتى نلتقي بهم مرة أخرى عند مليك مقتدر. “غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه”

حين يشاء الله أن نفقد شخصاً عزيزاً على قلوبنا وتحين نهايته، علينا أن نتذكر حينها أن النهايات ما هي إلا بدايات جديدة لنا ولهم. فالموت ليس “المثوى الأخير” كما نظن ونردد، بل هو مجرد إعلان بإنتهاء مرحلة والدخول في أخرى جديدة!

قرر أن تموت قبل أن تموت، وإستقبل الحياة بقلب لا يعرف الحزن أو الخوف. عش بالإيمان والتوكل على الرحمن، ولا تنسى الدعاء لمن سبقونا بالرحمة والمغفرة… موقنين أنهم حتماً في مكان أفضل.

دمتم بحب

تابعني هنا – Follow me here