كان الطيران حلم حياته…

إبن عمي أسامة، الذي كان ينتظر منذ نعومة أظفاره اللحظة التي يتحكم فيها بذلك المخلوق الضخم الذي يخترق عنان السماء بسرعة خياله الذي لا يعرف حدوداً لا لدول ولا حتى لقارات…

تخرج من الثانوية ليتقدم طالباً القرب من خطوط الطيران، عله يبدأ أول خطة من إكمال نصف “حلمه”… موقناً أن حلمه قد أينع وحان قطافه… وبعد الإختبارات والمقابلات وإتمام الفحوصات، أتاه الخبر الذي لم يكن على بالٍ ولا خاطر!

“أنا مش عارف آؤلك إيه يابني… إنت تجاوزت كل الإمتحانات بكفائة عالية، ومستواك ممتاز جداً ما شاء الله… بس في حاجة واحدة بس…” ترك الطبيب تلك العبارة معلقة في الهواء، لتتعلق بها أنفاس أسامة للحظة كانت أشبه بأعوام بطيئة تتمسك بالماضي رافضة المضي للمستقبل لتكشف ما قد يأتي بعد الـ “بس”.

“إنت يابني… عندك عمى ألوان!”

لم يستوعب أسامة تلك العبارة فرد بسرعة محاولاً التبرير: “عمى ألوان!؟ بس أنا نظري ستة على ستة يا دكتور، وأشوف كل الألوان بوضوح!”

حينها ربت الطبيب على كتف أسامة وهو يبتسم ليهدأ من روعه ويبدأ في شرح الحالة له…

“بص يابني، لما كنت طفل صُغيّر، أبوك وأمك علموك الألوان، كانوا بيسئلوك: اللعبة دي لونها إيييه؟؟ ولما ما كنتش بتجاوب كانوا بيئلولك: أحمر أو أخضر أو أصفر… وهكزا وهكزا… فاللي حصل أن عئلك برمج إسم اللون إللي ألهولك، مع الشكل اللي أصادك، فربطت إسم اللون في عئلك مع اللون اللي شايفه… بس دا مش معناته إن إنتا بتشوف الألوان زي ما بشوفها أنا، ولا حتى زي ما بيشوفها أي حد تاني، إنت بتشوفها بطريئة مختلفة تماماً عن أي حد… ولما بيحصل في ضعف في التفريئ بين الألوان، بنئول إن الشخص عنده عمى ألوان!”

images

حين حكى لي أسامة تلك القصة، تعجبت منها وتأملت طويلاً في التحليل الذي سرده ذلك الطبيب عن الألوان وعماها…

وتفكرت في مدى تطابق هذا المثال على كل منحى من نواحي حياتنا… نحن بالفعل، كل واحدٍ منا، مصابون بعمى ألوان… تذكرت عبارة لأحد الكاتبات الأمريكيات تدعى “آنيز نين” تقول فيها “نحن لا نرى الأشياء كما تكون، إنما نراها كما نكون”

هذا يعني أن كل ما نراه حولنا ليس الحقيقة المطلقة، إنما وجهة نظرنا الشخصية عما تعنيه لنا الحقيقة، مغلفة بآلاف البرمجات التي تعرضنا إليها على مر السنين…

اللون الأبيض لكوب القهوة السوداء الذي أحتسيها، ليس هو ذات اللون الذي تراه أنت… فأنت تراه بشكل مختلف تماماً… إلا أننا متفقون على المسميات ليس إلا…

المواقف التي تمر علينا في حياتنا اليومية، ونحكم عليها بالسلب أو الإيجاب، حكمنا عليها ماهو إلا وجهة نظر شخصية ملونة بالألوان التي قد نراها بطريقتنا نحن!

لا توجد حقيقة مطلقة… ولا واقع مطلق… كل ما حولنا.. هو واقعنا بحسب ما نراه “بالألوان” التي تبرمجنا عليها… ومهما حاولنا أن نرى الأشياء بأعين الآخرين فإننا لن نستطيع ذلك… جل ما نستطيعه هو أن نحاول تفهم وجهة نظرهم… وأن لا نلومهم على ما يرونه جميلاً ونراه قبيحاً أو العكس مهما حصل…

لم يكمل أسامة في الطيران، لأنه أتضح له من حينها أنه لم يكن “لونه” المفضل البته، إلا أنه وجد ضالته في اللغة الإنجليزية التي طالما عشقها وتعلمها ليعلمها وليتخرج بإمتياز منها ليصبح مربياً للأجيال ليعلمهم كيف يرون اللغة… والحياة…بألوان أقرب ما تكون إلى الحقيقة..