في أوائل عشريناتي، سن الحماس والمغامرة، بدأت رحلتي في عالم التسويق وتطوير الذات، لأبحث عن مصادر جديدة في كل ما ومن حولي لتثريني… وفي أحد الأيام تلقيت إتصالاً من أخي وصديقي “بشر” يدعوني لحضور “جلسة ذكر” لشيخ شاب، يدعى “علي أبو الحسن”… لم أكن مهتماً وقتها بتطوير نفسي شرعياً، لكنني ذهبت على أية حال…

وبحكم أنني آتي أصلاً من مجتمع المدينة المنورة، فقد شكل ذلك لدي تصوراً عن شكل الجلسة: شيخ مسن بلحية طويلة يجلس على أرض المسجد أو على كرسي مرتفع كتلك التي يجلس عليها معلموا المسجد النبوي، يحيط به الكثير من طلبة العلم متوسطي العمر أولي الأشمغة اللامعقولة، بثيابهم القصيرة وكتبهم أو دفاترهم التي يدونون فيها ما يمليه عليهم الشيخ…

بعد أن أعطاني صديقي وصف المكان، طلب مني أن نلتقي عند المسجد لنصلي العشاء سوياً ثم نبدأ الدرس. وبعد أن فرغنا من الصلاة، فاجأني أن الدرس لن يكون في المسجد، إنما في بيت مجاورٍ له يسكنه أحد أصدقائه… إستغربت ذلك حينها لكنني لم أمانع…

حين وصلنا إلى الموقع، إستقبلنا “بدر” أمام منزله معجلاً بأن الدرس سيبدأ، وهنا كانت المفاجأة، فقد تحطمت لوحة توقعاتي عن “الدرس” إن صح أن أسميه كذلك!

كان الشيخ الأسمر، يجلس على كنبة في صدر صالون بدر، بثوب ملون، ولا شئ على رأسه إلا طاقية تقليدية، أحاط به من كل مكان شباب كؤلائك الذين تراهم يتسكعون في شارع “التحلية”، ببناطيلهم “الجينزية”، و “تيشيرتاتهم” التي تملأها الصور والعبارات الغربية، وشعورهم المكدشة أو المربوطة وراء رؤوسهم، ورقابهم التي لفتها السلاسل بدلاً من الأشمغة المرمية يمنة ويسرة، وأيديهم التي أحاطتها أساورٌ بدلاً من أن تحيط بقلم أو ورقة…

هالني ما رأيت، وكدت أن أخرج فوراً… لولا أن سرقني أبو الحسن…

aboalhasan

حين بدأ بالحديث بعد الصلاة والسلام على الحبيب، حل سكون غريب لم أعهده من قبل ولا في أي درس من دروس مسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام… لم يقتصر على الأصوات وحسب، إنما تجاوزها ليسكن الأرواح… كلام عذب، وتعابير بسيطة بلغة مفهومة، ونكت بين الفينة والأخرى تضحك الروح وإن إكتفى الفم بمجرد التبسم… وحين قارب “الدرس” على الإنتهاء، وأُجهش “الشباب الكول” بالبكاء… ومنعتني قسوة قلبي في ذلك الحين من المشاركة إلا بدمعات معدودات سرقها مني أبو الحسن، قام الجمع يسلمون على بعضهم ويتحاضنون… تحيط بهم سكينة وحب لم أشعر بهما قط في حياتي… إكتفيت بمجرد المراقبة عن بعد… ولكنني لاحظت نظراته تتبعني… عرفني عليه صديقي “بشر”، فصافحته وأخذت رقم جواله…

جلست بعدها عدة أيام أحلل الموقف وأنخله، علي أجد الإجابة منطقية تفسر لي ما حدث… شباب “كول”، متدينون ومتأثرون، قلوبهم وجلة، أفواههم باسمة، ونفوسهم طيبة… لكن مناظرهم تخالف ذلك كله، “لو إطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولمئت منهم رعباً”، وكل ذلك لمخالفتهم المقياس الذي كنت أقيس به الآخرين… وأي شيخ ذاك الذي يجلس بين الناس دون كبر أو أن يعمل له حساب؟ يفرض على الجميع الصمت بأسلوبه وإبتسامته… دون أن يطلب ذلك بإسكاتهم ولا بتكشيرته…

لم أجد الإجابة فقررت أن أتصل على أبي الحسن، فرحب بي وطلب مني زيارته في مكتبه… الذي توقعت مرة أخرى أن يكون تقليدياً مبعثراً بمكتب بني عتيق أو مجلس أرضيٍ يقدم فيه القهوة والتمر… حتى سرقني أبو الحسن!

مكتب “مودرن” يحيط به البياض من كل جوانبه، وتشع فيه الشمس ليشع على كل من يدخله… جلست مع أبي الحسن، أحتسي قدحاً من القهوة والشوكولا، أثناء بحثي عن إجابات تعلل صحة مقياسي وتعيد إلي صوابي… لكنه سرق مني أسألتي… وأهداني بدلاً منها تحليلاً لشخصيتي… لم أشعر بالوقت معه… ولم أفهم ما قاله عني، لكنني إحتفظت بالورقة التي حللني فيها علي أفهمها يوماً ما…

دارت الأيام، وأنشغلت عنه وعن الدروس، حتى أتتني فكرة برنامج تدريبي جماهيري مميز، خفت أن أشاركها مع من أعرف فيسرق “أفكاري النيرة”، ففضلت أن أشارك بها أبا الحسن… تقدمت له بورقتي بحث تفصل الموضوع… أعجبه وقرر أن يساندني فيه…. لكنني لم أسمع منه بعدها، فظننت أنه جاملني ليشجعني…

فوجئت بعد عدة أشهر بإتصال من مركز تدريبي، يطلب مني المشاركة في برنامج جماهيري… حضرت أنا و “بشر”، لأفاجأ بوجود أبي الحسن، جلست بين الحضور، وبدأ المنظم بالحديث حول الموضوع… إختنقت، لم أستطع التنفس… كان يتحدث عن “فكرتي النيرة” مقرراً تنفيذها… صمتُّ رغماً عني… حتى أتاني الدور بالتعليق، لم أتمالك نفسي، فنظرت إلى أبي الحسن، وقلت: “كيف لي أن أشارك برأيي عن فكرة سرقها مني أبو الحسن؟!” وفررت هارباً من المكان مطعوناً في ظهري… لحق بي أبو الحسن ليوضح لي الأمر… لكنه لم يدركني…

لأسابيع تألمت، فكرت وحللت، فلم أجد جواباً شافياً يعلل فعلته بالأمانة التي أئتمنته عليها… حتى وردني منه إتصال يطلب مني لقائه في الحال… ذهبت إليه على مضض، وأخبرني أنني أخطأت الفهم… “سمعت” لكل ما أراد أن يقول، دون “إنصات”… خرجت من عنده مقرراً عدم العودة له ولا لقائه ولا السلام عليه…

مرت السنون، والموضوع يقتلني ولا أفهمه، فلا أنا أذكر تبريره ولا تعليله، ولا أستطعت على مشروعي بتنفيذه… فقررت نسيانه ودفنه في قبر واحد مع أبي الحسن…

تلقيت بعدها دعوة من صديق، لحضور مؤتمر في الغرفة التجارية، فقبلت… حين حضرت فوجئت بأبي الحسن كأحد المتحدثين… شعرت بتشائم كبير، وعبرة تخنقني… نظر إلي من بعيد فأشحت بوجهي تظاهراً بعدم رؤيته… تحدثت عنه بسوء لصديقي الذي حضر معي، محاولاً الفضفضة التي قد تخفف عني وتبقيني ثابتاً على كرسيي أثناء حديثه… كدت أخرج من القاعة، لولا أن سرقني أبو الحسن!

حين صعد على خشبة المسرح، لم يملأ القاعة شئ إلا التصفيق، الذي منعتني “الأنا” عنه، وقف ليتحدث عن الذوق… لكنه قبل أن يفعل، قرر أن يلطمني على الملأ ليفيقني، وقام إلي ليطعن ظلمة “الأنا” التي تسكنني، بخنجر سلامي من نور، يهز به كياني ويزعزع معرفتي بنفسي وبكل ما أعتقدت انني مؤمن به… كلماته صعقتني فحاولت الوقوف والفرار، لكن ضيق المكان وإكتظاظه منعاني… ولك أن تشاهد بنفسك:

فوجئت قبل عدة أيام وأنا أرتب أوراقي المبعثرة، بالورقة التي “حللني” فيها أبو الحسن… فصعقني ما رأيت… كل ما على الورقة، بخط يده وبيدي… هو ما أنا عليه اليوم…

الدكتور علي أبو الحسن، معلمي الروحي الأول، وأستاذي في الذوق، وصديقي… سرق مني خلسة كل ما لم أكن أحتاجه، ليبدله بكل ما من دوره أن يجعنلي أحيا “إنساناً”، بدلاً من أن أعيش كبشر… كتبت هذه التدوينة، آملاً في أن يقرأها… ويقبل عذري… ويقرر أن يعود ليسرق ما تبقى من ركام داخلي

دمت محباً يا حبيبي يا أبا الحسن

تابعني هنا – Follow me here