تمر علينا مواقف يومية “تضطرنا” إلى تقييم من وما حولنا من أشخاص وأحداث، فنسارع بإطلاق الأحكام عليها مع إعطاء تحليلات نظنها منطقية لنبرر لأنفسنا…
فعلى سبيل المثال، يسألك أحد اﻷصدقاء: “سمعت عن المطعم الفلاني؟” فتسارع بالرد الحاضر المتحمس دون تفكير:
إما بالسلب : “أسوأ مطعم جربته في حياتي!”
أو بالإيجاب: “واو، ما قد ذقت أكل مثل أكلهم!”
لو تفكرنا لحظة فيما سبق، لعلمنا يقيناً أن كلا الإجابتين بعيدة كل البعد عن الصحة… والسبب أن كلتاهما تمثلان رأي الشخص ونظرته عن الحقيقة، لا الحقيقة ذاتها!
إن لم تفهم ما أعني بعد، فأرجوك أن تكمل قليلاً…
هب أن الصديق الذي تسأله قد زار المطعم مع عشرة من رفاقه، وتسرع بقراءة قائمة الطعام ليطلب وجبة لم تناسب “ذوقه الشخصي”، بينما كانت طلبات من معه على أفضل وجه (وذلك أيضاً حسب ذوقهم الشخصي)… ما حصل واقعياً هو التالي: تجربته “هو” لم تكن متلائمة وذوقه، إلا أنه عمم القاعدة على المكان: “أسوأ مطعم” وعلى الزمان: “جربته في حياتي!” وعلى التجربة بأسرها!
إعكس المثال لتأخذ الوجه الإيجابي: نفس الشخص مع نفس المرافقين، إلا أنه في هذه المرة كان “هو” من أعجبه الطعام بعكس رفاقه، وبالتالي كان رأيه العام على الحدث كله: “واو!”
إفرض أننا قمنا بجمع نفس الأشخاص مرة أخرى لنأخذ منهم إستفتاءً جماعياً، وبدأ صديقنا في كلا التجربتين السابقتين بإبداء رأيه مرة بالسلب وأخرى بالإيجاب… تأكد أن الرد عليه في كل المرات سيكون “يا أخي حرام علــــيــــك، إنت ما عندك ذوق!” سواء كان جوابه عن المطعم أنه جيد أو سيئ!
تسائلت كثيراً عن السبب الذي يدعونا للحكم على الآخر بأحكام تختلف عن غيرنا… وعن محاولاتنا المضنية لإقناعهم بآرائنا أنها “الأصح!”، فتوصلت إلى أن المعضلة تكمن في: عدم وجود مقياس!
فما نطلق عليه عبارة “الذوق العام” ما هو إلا وهمٌ إبتدعناه لنستخدمه في التأثير على الآخرين! فمن هم “العموم” الذين جمعنا آرائهم لنُجمع على أن أمراً ما جيدٌ أو سيئ؟! ومالقاعدة التي بنينا على أساسها أراءً إستطعنا من خلالها الوصول بلا تردد إلى تعميم واحد “نجزم” أنه يناسب الجميع…
لا أنكر تأثرنا بآراء الأخرين وحرصنا على سؤالهم في كل ما يتعلق بحياتنا، من المشارب والمطاعم والمدن والدول، والملابس، وحتى أحكام الدين! إلا أن كل ما يقال لنا في أغلب الأحيان لا يمثل الواقع بحيادية، إنما يمثل وجهة نظر شخصية عن ما نظن أنه الواقع، وشتان بين هذا وذاك!
فالواقع الذي “نفتي” فيه هو واقعنا “نحن”، بمقاييسنا “نحن”، حسب رغباتنا وأهوائنا “نحن”… والمشكلة تحصل حين نقرر أن نعمم ذلك “الواقع” على كل من حولنا… ولكي نحرص أن يقبله العامة دون نقاش، أو جدال، أو مخالفة، أطلقنا عليه عبارات رنانة، مثل: “الذوق العام”، أو “المذهب الفلاني”، أو “العادات والتقاليد”، أو “هكذا تعودنا وتربينا”، أو “هذا ما وجدنا عليه آبائنا”، وهلم جره… فتحولت المسألة من كونها أننا كلنا “نحن”، لتصبح “نحن” في كفة الصواب، “وهم” في كفة الخطأ!
أنت يا عزيزي لست المقياس، ولا أنا، ولا يوجد مقياس واحد من صنع البشر يلائم كل البشر أصلاً!
فالقوانين “الوضعية” على سبيل المثال، ما هي إلا “وجهة نظر” عن ما إعتقده شخص أو مجموعة من الأشخاص كانت لهم مقاييس متقاربة، ليتفقوا على عنونة ما يعتقدون أنه: “الحق والباطل!” لينتج عن ذلك ما يلائمهما من: “الثواب والعقاب” (أيضاً حسب مقاييسهم هم!)
مجرد حكمنا على الآخر أو تصنيفه، يعني في العمق أننا نعتقد أننا المقياس لكل ما هو “صواب” أو حتى لكل من هم في الجنة، وأن كل من يخالفوننا الرأي على خطأ، وضلال، وفسق، وفجور، وأن مصيرهم إلى النار! فتعدى تدخلنا المقاييس الدنيوية، ليصل أيضاً إلى الأخروية! سبحان الله!
إلا أن ما تقبله الفطرة السليمة، بل والقلب والعقل والواقع والمنطق، أن عدم إعجابنا بفكر معين لا يعني أنه “خطأ”، كما أن إعجابنا به لا يعني أنه “صواب”! لكنه كذلك فقط بالنسبة لنا.
يقول الحبيب المصطفى: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”، وهذا يعني أن إعتقادنا بأننا المقياس هو قمة ذلك الكبر، وهو السبب الرئيس لكل ما يحدث من نزاعات حول العالم وفي عائلاتنا وفي كل “مشكلة” نقع فيها (وقد تكون مشكلة فقط في أعيننا، ونعمة في أعين الآخرين!)
بل والأدهى من ذلك كله، أن الظن بأننا المقياس هو ما جعل إبليس يعصي ربه ولا يسجد لآدم كما أمره: “وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، قال ءأسجد لمن خلقت طيناً!” – الإسراء ٦١…
فنظر إبليس إلى نفسه على أنه “هو” المقياس وأن الكون يلتف حوله، وأن الحياة لن تدوم بدونه، وأن الله بحاجة لعبادة إبليس له (تعالى عن ذلك سبحانه)، فرفض السجود لآدم بحجة أنه لا يلائم مقياسه، في قوله “ءأسجد لمن خلقت طيناً” أي ليس مثلي من نار… فأعماه كبره وعنصريته عن معرفة أن الطين الذي قلل من شأنه… يخمد النار! وأن آدم خُلق بيد المولى سبحانه، وأن لله حكمة في خلقه، لكن إبليس لم يرى كل ذلك بسبب بطره للحق وغمطه لأب الناس!
إن أردت أن ترعى قطيعاً من الأغنام فلا أظن أنه من العقل أن تعيّن عليهم غنمة مثلهم لتحكمهم! بل ستحتاج قطعاً “لراعٍ” يفوقهم وعياً وعلماً، ويعلم ويعمل الأصلح لهم… ولله المثل الأعلى… فإن أردت أن تعيش حياة ذات بهجة وراحة وطمأنينة، فحرر نفسك من الحكم على الآخر مهما كان مختلفاً عنك… وإحتكم لمن عنده علم الغيب والساعة…المطلع على ما علمنا وعلى ما لم نعلم، الذي يعلم الأصلح لنا ومن بيده مقاليد كل شئ… وتأمل إن شئت قوله سبحانه: “إن الحكم إلا لله، عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون” – يوسف 234
في داخل كل منا محكمة متنقلة، بقضاها، ومحاميها، وشهودها، وأدلتها التي لا تقبل النقض… لا نتهاون في إستخدامها لقياس الآخرين والحكم عليهم بالحق والجنان أو بالباطل ودخول النيران… ناسين في كل مرة نضرب فيها مطرقة حكمنا قول الحبيب المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة والسلام: “قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار”
فيا ترى.. ما مصير قضاتنا؟!
تابعني هنا – Follow me here
شكرا على التدوينة المميزة
العفو… ممتن لك
الكثير من الناس يقع في فخ الحكم على الاشياء من خلال نظارته الشخصية ولا يقبل الا ما يرى
متى ما وقع الانسان في هذه المصيدة كانت بداية الهاوية
(ليش لا – ممكن ) كلمات لا يعرفها المتحجرون الانطباعيون ويعتبروها ضعف موقف وقلة تجرب ..
ولكنها في وجهة نظري دلالات على قدرة الشخص على تقبل وجهات النظر المختلفة التي تساعده في ان ينظر لتجاربه بشكل مختلف فيثريها
عنوان التدوينة معبر ويلخص المحتوى
كعادتك تدون المفيد .. وهذه بالذات استمتعت بقراءتها واستفدت منها الكثير
أتطلع لجديدك
لا فض فوك اخي وئام…. ممتن لك ولما قلت