جمعني الله تعالى أنا وثلة من الأصحاب “الساحبين” للخير في كل رمضان لنتشارك في أجر تفطير الصائمين، آملين من الله الكريم بأن يعطينا ما وعده لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأجرٍ كأجر من نفطر. ففي كل عام تتسهل أمور تفطير الصائمين بطريقة ربانية لا نملك أية تحكم بها، تنطلق بها طاقة عجيبة من نوايانا المجتمعة لنيل الأجر من ربنا الودود وإسعاد فقراء الصائمين الذين قد تمضي عليهم عدة أيام رمضانية إما بإفطار متكرر يومياً، وأحياناً بلا إفطار، بينما تزخر موائدنا بكل ما لذ وطاب… الحمد لله.

نشأت العادة بأن نطعمهم من أوسط ما نطعم أهلينا، وجبة خفيفة ظريفة، “تملى العين” ويشتاق لها القاصي والداني… نعم… إنه “البيك!”.

<p dir="RTL"لست هنا بصدد التسويق أو الحديث عن القيمة الغذائية التي تحويها الوجبة البيكية الشهيرة، أو عن عدد سعراتها الحرارية، بل بوصف القيمة المعنوية لها عند كل من يزور جدة بين الحين والآخر… وبالرغم من أنني لست من أنصاره أو محبيه، إلا أنني أتعجب في كل مرة أرى الزحام الشديد على كل أفرعه وفي أي وقت من اليوم… فلا أملك إلا أن أقول "ما شاء الله تبارك الله!" لعلها البركة!

تفرد البيك بنظام جميل يستطيع أن يخدم أي عدد من الزبائن في وقت قياسي وبكفاءة عالية. فقد فرض على زبائنه الوقوف في “طابور”  بوضع حواجز تحفهم يمنة ويسرة كي لا “ينبرش” أحدهم على الآخر. (الطابور بحد ذاته أمر لم نعتد عليه في شعوبنا العربية، وأرجو أن لا أكون قد عممت بعبارتي السابقة هذه!)

وفور أن تنتهي من طلب وجبتك، يقوم الكاشير بإعطائك فاتورة عليها رقم ترقبه على لوحة الأرقام واللعاب يسيل من فيك. وبالرغم من الطابور والأرقام، إلا أنك لا بد أن تجد البعض متزاحمين على “الكاونتر” وهم ينادون “صديـــــــــق، جيب طلب، جيب طلب!” وهم يعلمون تمام العلم أن دورهم لم يحن بعد… نظام!

وبعد أن تخرج من عالم النظام المؤقت الذي ينكسر فور إكتشافك أن أحداً ما قد أغلق على سيارتك بالرغم من خلو المواقف، لتنطلق باحثاً عنه بالصراخ بنوع سيارته ولونها… أو أن تنتظره طويلاً حتى يفرغ من طلبه، فيكتفي برفع يده متأسفاً ومبتسماً إبتسامة صفراء لا تعوض الوقت الذي ضاع عليك… نظام!

عموماً… حين نستلم الوجبات الإفطارية، نتجه بها إلى منطقة جداوية منسية، إجتاحها الفقر من كل حدب وصوب… منطقتي “غليل والكرنتينا”… إتفقنا فيها مع مجموعة شباب من قاطني المنطقتين، بجمع الناس وتنظيمهم في “طوابير” لكي نقوم بالتوزيع بكفاءة عالية وفي وقت قياسي…

IMG_20130727_185459

بدأنا بالتوزيع بكل سلاسة حتى قام أحد “المتمردين” بمد يده من خارج الطابور “لينتش” وجبة في غير دوره بحجة أن “الطابور طويل” فيخرق النظام!

ولهول المنظر الذي لا أظن أن الكلمات تكفي لوصفه، تحولت طوابير الرجال والأطفال والنساء، من بشر إلى مجموعة من الأسود والأشبال واللبؤات، وكأنهم ينقضون على حمر مستنفرة تحاول الفرار… لينتهي الحال بمعظم الوجبات التي كانت قطعاً ستكفي الجميع، إلى أن تداس بالأرجل، ليحرم الأغلب من تناول إفطار هنيئ… نظام!

وقفت مذهولاً في محاولة لفهم ما حصل، حتى أقبل علي صديقي نزار ليهدأ من روعي قائلاً: “لا تستطيع لومهم ولا إجبارهم على الإلتزام بالنظام، فكل ما حدث هنا، ما هو إلا مرآة لما يحدث لنا في الدوائر الحكومية والمراجعات!”. ولتأثري الكبير بالموقف لم أستطع تقبل ما قاله بالكلية، حتى جاء الأسبوع المقبل الذي زرت فيه إدارة الجوازات!

نساء ورجال، يقفون متزاحمين على بوابة الجوازات بمنظر أسوأ بكثير من “غزوة البيك” التي خضناها! مكشرين عن أنيابهم في إنتظار اللحظة السانحة للإنقضاض على البوابة فور فتحها لينهش كل منهم رقماً من المكينة، التي لو كنت مكانها لأصابتني الكوابيس في في كل ليلة تسبق الدوام خوفاً من فقدي لزر أو خدش في عين شاشتي أو قطع للحبل السري الكهربائي الذي يبقيني على قيد الحياة!

بقيت متسمراً حتى خرج أحد الموظفين صارخاً بأعلى صوته على الناس للتراجع، ليهدأ مع زئيره الضجيج، وأتقدم أنا بخوف وحذر شديدين لأحصل على آخر رقم في السلسلة، ولأجلس لساعات طوال منتظراً معالمة إلكترونية لا تحتاج لا إلى قلي ولا “ثوم زيادة”، ومع ذلك تزحف فيها الأرقم زحفاً أبطئ من أبطئ وجبة “بيك”… نظام!

لكنني صبرت حتى إستبشرت بحلول دوري الأخير قبل الإغلاق، ليفاجأني الموظف بنظرة خاطفة  على معاملتي المكتملة النصاب ثم يقول “أنا آسف، النظام ما يسمح… راجعنا بعد العيد!” فأهرع لأكلم من أعرف من الواسطات فيوافق أن “يمشيني بمزاجه!”… نظام!

لله دركم يا أهل الكرنتينة وغليل! إن أوهمنا أنفسنا بأن الفرق في لون البشرة، أو ماركة اللباس أو رصيد الحساب أو مدى الرقي أو الوعي فقد أخطأنا!

 لا فرق بيننا في النظام… كلنا منظمون… فلا شئ في الكون يسير بلا نظام، الطابور نظام، والتزاحم أيضاً نظام. إلا أن الفرق أن الأول قد صنعناه ليضمن الحقوق، والسرعة والكفاءة في الحصول على الخدمة المرجوة أياً كانت، إفطار صائم أو معاملة حكومية أو حتى طابور في “لفة يوتيرن في طريق الملك السريع”! (أهل جدة ادرى بها)… لكن النظام الذي إخترناه هو “الفوضى”… نعم… حتى الفوضى  نظام ولها طرائق ووسائل للحصول على ما تريد بسرعة وكفاءة عاليين وقبل غيرك من المستحقين!

النظام صنع ووضع وطور لكي يسمح ويخدم ويكون هو العبد لا السيد…

لا عجب فيما نرى من فوضى إن كانت الفوضى هي النظام المعتمد في كل نواحي حياتنا…

لن يتغير الخارج إن لم يتغير ما في الداخل بدئاً بأنفسنا ثم أقرب الدوائر المحيطة بنا…

“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”

كل ما نراه من فوضى تحيط بنا، ما هي إلا أنعكاس للفوضى التي تسكن دواخلنا…

إن أردنا أن نحيا حياة كريمة… فقد آن الأوان لأن نكون معاً… في قلب النظام!

دمتم بحب

تابعني هنا – Follow me here