في “زاوية التجار” من مركز تجار جدة، يقع مسجد صغير بحجمه، كبير بقدره… للوهلة الأولى من دخولك إليه ينتابك شعور “ديجافوي” غريب بأنك قد زرته من قبل…مبناه الخارجي ذو التصميم العتيق، يعيدك بالتاريخ لأحياء جدة القديمة.. وإن ظننت أنني أبالغ في وصفي فسيؤكد لك كلامي المصلون فيه، الذين يتهافتون إليه لإجابة النداء، بعمائمهم الحجازية التي يرتدونها على رؤوسهم كتيجان الملوك، إلا أنها تزيد هيئتهم تواضعاً ووقاراً… فيسارعون إليه بعد الإنتهاء من تجارتهم مع البشر، ليكملوا تجارتهم مع رب البشر…
ولا يختلف خارجه عن داخله، فديكوره غير المتكلف يشعرك براحة وطمأنينة حين تتجول بناظريك في أركانه… في النهار، تشع فيه الشمس من كل زاوية لينعكس نورها على كريستالات نجفته التي تتدلى من التجويف الداخلي لقبته، كحبات من العنب اليانعة التي تبرق منتظرة من يقطفها… أؤكد لك أنك حتى وإن كنت تزور المسجد للمرة الأولى، فستشعر فوراً بحميمية غريبة…
ففي صلاة الجمعة مثلاً، ينتابك شعور بأنك تعرف كل من يصلي فيه… شعور غريب لا أذكر أنه مر علي في مسجد غيره من قبل… الوجوه هناك بشوشة، ضاحكة مستبشرة، يبادرونك الإبتسامة بمجرد نظرك إليهم… خطبة الجمعة فيه أشبه بدورة تدريبية مصغرة… تكمل بعدها الصلاة التي سرعان إنتهاء الخطيب منها، تنشأ “بتسليمته” موجة “سلام” بادئة بتسابق جل من في المسجد لمصافحته وتهنئته على الخطبة، في منظر أشبه بمشجعين يستقبلون نجماً محترفاً عاد بعد تحقيق نصر مؤزر لجمهوره… ثم تنتقل الموجة للتحول إلى تحايا وعناق بين المصلين، تعبر عن إشتياقهم لبعضهم البعض بعد مضي أسبوع على لقائهم الأخير… إلى أن ينتهي بهم الحال إلى جماعات صغيرة متفرقة يتجاذب كل من فيها أطراف الحديث ليسأل كل منهم عن أخبار الآخر…
منظر أخاذ وإحساس جميل لن تفهمه حتى تعيشه هناك…
لكن بالرغم من كل الأشياء الجميلة التي ذكرت، إلا أن كل تلك الأسباب ليست ما يربطني بهذا المسجد… قد تستغربون إن ذكرت لكم أن سر الإرتباط يكمن في الرائحة التي يعطر بها مسؤول المسجد سجاده!
فرائحة المسك التي تفوح منه، تذكرني كل أسبوع باللقاء الأخير الذي ودعت فيه والدي عليه رحمة الله وأنا في السابعة من عمري… لا زلت أذكره وهو يتوسط المجلس مستقبلاً مودعيه بإبتسامته الؤلؤية، ووجه المضيئ وعيناه المغمضتين برفق كمن يأخذ غفوة عارضة في وسط يومه المجهد… ولازالت رائحة المسك التي تفوح منه محفورة في ذاكرتي… أسترجعها في مسجد تجار جدة في كل سجدة أسجدها لله… فأذكره وأدعو له بالمغفرة والرحمة… آملاً في كل مرة أرفع فيها رأسي من السجود أن أراه جالساً بجانبي… وعائداً إلى صغري مرة اخرى، لأشعر أنني لا زلت ذلك الطفل الذي كان يمسك بيده ليصحبه معه إلى المسجد كل جمعة…
ثمة أماكن تحجز في قلوبنا “أماكن” تذكرنا بالأحباب وتربطنا بالأقارب والأصحاب… لنسأل عنهم إن غابوا، ونسعد بصحبتهم ووصلهم إن حضروا… آملين أن نترك فيهم و فيها الأثر… حتى إن حان وقت رحيلنا… ذكرونا كل ما وجدوا آثارنا …كأثر المسك في سجاد مسجد تجار جدة…
تابعني هنا – Follow me here
اللهم اجمعه بمن احب في رياض الجنه