حين كنت لا أزال أعمل في القطاع الخاص في 2003، كانت إحدى مميزات عملي قرب المسافة بينه وبين المنزل، مما يعني أنني كنت أستمتع بالخروج من منزلي قبل بدء الدوام الرسمي بـثلاث دقائق دون أن أشعر بتوتر أو قلق من ساعة البصمة التي قد تقضم من راتبي قضمة يتناسب حجمها طردياً مع عدد الدقائق التي تمضي بعد الثامنة والنصف! كما أنه كان بإمكاني أن أتلذذ بغداء شهي ساخن من يد والدتي الحبيبة بعد 7 دقائق فقط من إنتهاء الدوام (7 دقائق عشان سرا البصمة والناس جيعانة!!)… ناهيك عن مشوار إستخدام الحمام في حال كانت الحمامات مشغولة أو عليها آثار أقدام جراء “دعس” أحد المسؤولين عليها ظناً منه أن “الإفرنجي” مثل “العربي” تستطيع أن تدعس عليه وتمضي دون ان “يحاسبك” أحد… أكرمكم الله!

عموماً، أن يكون مقر عملك قريبٌ من منزلك نعمة لا تستطيع أن توفي حق شكرها مهما فعلت، وخاصة إن كنت تسكن جدة. وأعتقد أنني أستطيع أن أعمم القاعدة على معظم المدن دون أن يلومني أحد، فالصباح الباكر عند الغالبية يعني الكثير من العصبية وضيق النفس، وخاصة إن سبق عملهم مشوار لتوصيل أطفالهم للمدارس. أما الخروج في نهاية الدوام فلا يختلف كثيراً: توتر وفوضى عارمة في الشوارع تعتمد نسبتها على عاملين: مستوى الجوع، وبعد المسافة.

وبالرغم من عدم تأثير العوامل السابقة على يومي بأي شكل من الأشكال للسبب الذي ذكرت آنفاً، إلا أن هناك ثمة نوع من الناس يكسرون حاجز الصمت والسمت لديك مهما كنت متماسكاً ومؤدباً!

بدأت القصة في أحد الأيام  الصيفية الحارقة أثناء إستعدادي “للفكاك” في “بريك الغداء”، خرجت بكل طمأنينة وشغلت الراديو إستعداداً للرحلة التي لم أستطع يوماً أن أكمل سماع إغنية كاملة أثنائها، وعند وصولي إلى المنزل فوجئت بسيارة تملأ موقفي الذي وضعت عليه لوحة تقول “موقف خاص شقة رقم 4”. في العادة، لا أمانع من البحث عن موقف بديل إلا أن المواقف في حيّنا كانت شحيحة والشوارع ضيقة. سألت حارس العمارة عن صاحب السيارة، فأخبرني أنه ضيف عند الجيران. نزلت من سيارتي وضغطت الجرس الإنترفون وأخبرت من رد بكل أدب و إحترام أن ضيفهم يقف مكاني. أجاب علي على عجالة “طيب طيب نازل نازل…”

عدت إلى سيارتي لأنتظر وأستظل من حر الشمس والرطوبة التي بدت كـ “ساونا” آنذاك. وبعد مضي بضع دقائق بدأ “الفار يلعب في عبي”… فنزلت لأدق الجرس ثانية و أذكره، عله نسيني. رد علي نفس الشخص، لكن هذه المرة بصوت يخرج من فم مليئ بالطعام… “…مممم … ياخي صبر صبر، مو قلنالك نازلين!”، أخبرته بنبرة إعتذار وتأنيب لنفسي أن الجو حار وأنه لا يوجد موقف آخر وإلا لما انتظرت ولا حتى طلبت منه الخروج… لكنني فوجئت انني أكلم نفسي… إذ أنه أكمل جملته وذهب…

عدت إلى سيارتي بصمت ومؤشر الغضب بدأ في الإرتفاع اعلى من حرارة “ريديتور” السيارة في فصل الصيف! لكن المكيف هدأ قليلاً من روعي، وحدثت نفسي أنه قد يكون معذوراً أو لديه ظرف منعه من النزول… أشغلت نفسي بالراديو أتنقل من محطة إلى أخرى (كان في محطتين فقط!!)

وبعد ربع ساعة… شرف المحروس… فوجئت برجل ذو وجاهة (بين قوسين “كرش”) ينزل الدرج متبختراً مرتدياً ثوباً مغربياً كعريس يخرج من منزله لأول مرة بعد أول ليلة زواج… كان يغطي وجهه بيديه ليستظل من الشمس التي جهرت نظرته الساخرة التي بادرني بها… خرجت من سيارتي وأنا أكاد أنفجر “ترى ليا ربع ساعة بأنتظر حضرتك… ولو كان في موقف تاني كنت وقفت ولا أزعجتك لكن إنت شايف الوضع”، أعاد إلي نفس النظرة، لكن هذه المرة مع إبتسامة صفراء وقهقة مصطنعة خفيفة، كالتي تخرج من فم الأشرار في أفلام الكرتون… ثم قال:

“إنتا عارف انا مين؟!”

بصارحة، لم أعرف كيف أجيب لأنني حاولت بكل خلايا عقلي أن أربط سؤاله بأي طريقة للموقف الذي يحصل الآن… فقلت بكل بلاهة “لا و الله ما اتشرفت”… فأعاد تلك القهقة مرة أخرى إنما بصوت أعلى هذه المرة ثم قال:”ترى أنا إنسان مهم في المجتمع… ومعروف كمان…”

تأكدوا تماماً انني مهما حاولت التعبير فلا أظنني سأستطيع وصف ملامح وجهي لكم في تلك اللحظة… لكنني عرفت الآن ما معنى عبارة “شعور مختلط” حينما يسألك شخص ما سؤالاً غبياً فتبادره بإجابة أغبى منه!

وقبل أن أنفجر من غضبي إستوقفني بإشارة من يده ظناً منه أنه سيهدأني وقال:”معاك الدكتور……. من جامعة الـ……”

طبعاً “دورني” بالعامية… لأنني لا أذكر ماذا قلت حينها من عبارات كتلك التي تطلقها الراقصات التي يعشن في الأزقة بحواري مصر القديمة…مثل: “نعم يا خويا…” متبوعة بشهقة ثم حركة بسبابتين مجتمعتين تارة ومتفرقتين تارة أخرى ألوح بهما يمنة و يسرة…. “ترى الدكترة ما فادتك بشئ…”

الغريب في الموضوع أنه عاملني كأنني أنا المذنب… نظر إلي بإبتسامته الساخرة مرة أخرى وربت على كتفي مرتين قائلاً
“معليش معليش…” وأعطاني ظهره وهو يكرر تلك القهقهة البلهاء التي ما زلت أسمع صداها كلما تذكرت هذا الموقف….

استخدمت هذه القصة في كثير من التدريبات التي ألقيها لأوضح الفرق بين: العلم… والوعي. ما تربينا عليه في صغرنا أن الدرجة العلمية يجب أن تنعكس على سلوك التعامل اليومي لحاملها… وأنه (هو أو هي) حينما يخطئ أو يذنب نظن أن المنصب أو المسمى سيشفع له أو يخفف عنه العقوبة… إلا أن هذا الموقف وكثير غيره، غير نظرتي تماماً!

في الحقيقة لا علاقة بين المستوى العلمي لدى الناس ومستوى الوعي… أنا متأكد أنك سبق وأن إلتقيت برجل كبير في السن، قد يكون أمياً، لكنه ناجح في تجارته و كريم في أخلاقه، بشوش ومحبوب، يستأنس الكل بقدومه… وفي المقابل، قد تكون أيضاً إلتقيت بشخصية معروفة، ذات منصب عالٍ، وحرف لماع قبل إسمه/ها، إلا أن أخلاقه وتعامله لا يكاد يزن “فصفصه” على ميزان خضار قديم عاث فيه الصدأ فساداً من كل جانب!! (أتحمست بزيادة!)

خطأنا اننا ربطنا العلم بالوعي… فنتعجب إن أخطأ هؤلاء ونستنكر عليهم قائلين… “لا لا، فلان ما يسوي كذا، هذا دكتور…” أو مهندس، أو مدير شركة، أو غني… إلخ. لكي تعيش مرتاحاً مع نفسك ومحبوباً من الآخرين عليك أن تساوي كفيتي ميزانك بقدر المستطاع… هذا لا يعني أن العلم لا يفيد وحده أو أن الوعي لا قيمة له بمفرده… أبداً… إلا أن إرتفاعهما سوياً سيؤدي بك إلى أن تكون كالحبيب المصطفى “كان خلقه القرآن”… وهو، عليه أفضل الصلاة والسلام، بالرغم من أميته في القراءة و الكتابة، إلا أنه جمع كمالي العلم والوعي…

مشكلة العلم الذي لا لم يجمع بالوعي أنه يغلب على صاحبه “الأنا العالية” … “الإيجو”… الذي يصنع فيه فوقية قاتلة… توهمه أنه محبوب ومهم وان الناس لا يستغنون عنه… إلا أنه في الواقع مكروه من كل من يقابل… معظم من يحيطون به يضطرون إلى تصنع مشاعرهم و تعابيرهم لإرضائه… وينتظرون بفارغ الصبر اللحظة التي “يفكهم من شره ويمشي”

من متضادات الحياة… أنك غن أردت شيئاً فأعمل عكسه… فإن أردت أن تدخل العظمة من أوسع أبوابها… فتأكد أن مفتاحها التواضع

وكما يقول سيدي رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم: “من تواضع لله ….رفعه”

للحديث بقية…

تابعني هنا – Follow me here